Sunday, May 25, 2008

يسوع ونيقوديمس



يسوع ونيقوديمس


هذا اللقاء بين يسوع ونيقوديمس، يتحدّد موقعه داخل لقاءات ثلاثة مع حامل وحي الآب. نيقوديمس، الرئيس اليهودي (3: 1- 21)، السامرية التي انفصلت عن الدين اليهودي (4: 1- 42)، الموظف الملكي الذي هو وثني (4: 46- 54).
ونبدأ بالمقدمة (آ 1- 2 أ). جمع الراوي في هاتين الآيتين عناصر تعرّفنا بهوية الشخص، بصفته كفرّيسي وكوجيه يهودي. تعرّفنا بالظرف الذي فيه جاء إلى يسوع (ليلاً).
سيذكر نيقوديمس مرتين فيما بعد في إنجيل يوحنا. في 7: 50 وفي 19: 39. يقال عنه في المرة الأولى: "هو الذي جاء قبلاً إلى يسوع". أراد أن يدافع عن يسوع: "أتحكم شريعتنا على أحد قبل أن تسمعه وتعرف ما فعل" (آ 51)؟ وفي المرة الثانية يقال: "وجاء نيقوديمس وهو الذي ذهب إلى يسوع ليلاً من قبل. جاء مع يوسف الرامي لكي يحنّطا جسد يسوع. هل نعتبر هذه الفعلة التقوية بمثابة إرتداد من قبل ذاك الذي ظلّ صديق يسوع حتى النهاية؟ ولكن هناك من يتجاوز تعاطف القارىء مع نيقوديمس فيقول مع أغوسطينس: "جاء في الليل، وذهب في الليل. إنه لم يخطُ الخطوة الأخيرة التي تقوده إلى النور. ولكن مهما يكن من أمر، ففي هذا المقطع (3: 1- 13) يركّز يوحنا إنتباهنا على موضوع اللقاء: نؤمن أو لا نؤمن بالهوية الحقيقية ليسوع في ملئها الكرستولوجي.

إن الملاحظات العابرة التي تفتتح هذا الفصل، تعرّفنا إلى الشخص وإلى موضوع الحوار. فالليل هو زمن سري يتيح للذي يخاف أن يظلّ متخفياً. ولكنه بشكل خاص الزمن المميّز الذي فيه نتأمّل سرّ الله. لقد اعتاد الرابانيون أن يكرّسوا لياليهم لدراسة الكتب المقدّسة. والذي جاء إلى لقاء يسوع هو ممثّل الشعب اليهودي. إذن تتحلّى زيارته بطابع رسمي. فكأني بيسوع مدعو لكي يحدّد موقعه داخل العالم اليهودي.
تركّزت كل المعلومات في هاتين الآيتين. بعد هذا، تختفي العناصر الخبرية العابرة، ليبرز موضوع الحوار والوحي الذي ينهي هذا الحوار.
هناك حواران بين يسوع ونيقوديمس. في الأول، يبدأ نيقوديمس الكلام فيقول: "نحن نعرف" (آ 2 ب- 3). وفي الثاني، يتساءل: "كيف يولد الانسان ثانية"؟
موضوع الحوار الأول: المعرفة أم الولادة. قدّم نيقوديمس نفسه كممثّل للسلطات اليهودية وتكلّم باسمها. لقد رأى في يسوع "مرسل الله". حدّد له موقعه. فالآيات التي يصنعها تدلّ على أن الله معه كما كان مع موسى (خر 3: 12 حسب السبعينية) ومع إرميا (إر 1: 8). هناك عدد من الرابانيين حسبوا أنبياء حقيقيين. ونيقوديمس جعل يسوع بينهم، جعله في سلسلة مرسلي الله في تاريخ الخلاص. وقد يكون رأى فيه النبي الذي أعلن موسى عن مجيئه في تث 18: 18: "سأقيم لهم نبياً من بين اخوتهم مثلك وألقي كلامي في فمه".
آمين، آمين. الحق، الحق أقول لك. تعلن هذه الكلمات في إنجيل يوحنا، وحياً إحتفالياً هامّاً. أما جواب يسوع فيقع في إطار سوء التفاهم. حين أجاب يسوع، جعل نفسه على مستوى يختلف عن السؤال المطروح، حيرّ محاوره: تظاهر بأنه فهم كلمة نيفوديمس كسؤال شخصي. فكأني بنيقوديمس يشبه الوجيه الذي أراد أن يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل ليرث الحياة الأبدية (لو 18: 18).
حدّد نيقوديمس موقعه على مستوى المعرفة. هو يعرف ويسوع يعرف. هو معلّم ويسوع معلّم. ولكن يسوع سيقول له فيما بعد: "أنت معلّم في إسرائيل ولا تعرف" (آ 10)؟ لهذا عرض عليه ولادة جديدة: أنت تريد أن تعرف. وأنا أعرض عليك ولادة جديدة. ركّز نيقوديمس سؤاله على يسوع وعلى هويته. ولكن يسوع امّحى في تلك اللحظة، فوجّه كلامه عبر نيقوديمس، إلى كل إنسان: "لا يقدر أحد (أي: إنسان) أن يرى الملكوت".
قال يوحنا: يرى الملكوت. قال الإزائيون: يدخل الملكوت. إن عبارة يوحنا تشدّد على البعد الوجودي: هناك خبرة ولقاء ومشاركة. وقد يلمّح يسوع تلميحاً أوّل إلى رسالته: من يرى يسوع يرى الآب. هذا ما قاله لفيلبس بعد العشاء السري. "يا فيلبس، من رآني رأى الآب" (يو 14: 9).
أما الآن، فيشدّد يسوع ويلتح بأن على كل إنسان أن ينتقل من "عرف" إلى "ولد". ثم إن الظرف اليوناني المستعمل يحمل معنيين أو أكثر: ولد "من فوق". ولد "من جديد"، أو مرة ثانية. ولد "منذ البدء". لم يخفَ هذا الالتباس على الإنجيلي. فهذه الولادة تأتي (من فوق). إنها عمل الله وحده. ولكننا أمام ولادة جديدة وبداية ثانية. تكلّم الإزائيون عن الذين "يصيرون كالأطفال" (مت 18: 3) فشدّدوا بالأحرى على النداء إلى الإرتداد والتوبة. أما عند يوحنا، فلم يذكر حرف التشبيه (الكاف: كالاطفال). قال: يجب أن نصير أطفالاً. يعني: أن نولد من جديد.
وننتقل إلى الحوار الثاني في (آ 4- 10).
ما استطاع نيقوديمس أن يرتفع إلى مستوى يسوع. سار في خط الحوارات الرابانية، فقدّم إعتراضين ليسوع. الأول: "كيف يستطيع الإنسان أن يولد وهو كبير في السن"؟ الثاني: "هل يستطيع الإنسان أن يعود (يدخل) إلى بطن أمه"؟ وسيمتدّ سوء التفاهم فيعطي ليسوع إمكانية توضيح الوحي الذي يحمله. وسوء التفاهم هذا سنجده أيضاً مع السامرية التي حدّثها يسوع عن الماء الحي، فظلّت على المستوى المادي وقالت له: "أعطني من هذا الماء يا سيدي، فلا أعطش ولا أعود إلى هنا لأستقي" (4: 15). كما سنجده أيضاً مع الشعب بعد تكثير الأرغفة. قالوا له: "يا سيد، أعطنا كل حين من هذا الخبز" (6: 34). وفي الجدال حول إبراهيم: "كيف رأيت إبراهيم وما بلغت الخمسين بعد" (8: 57)؟ بل في حديثه مع التلاميذ. قال له فيلبس: "يا سيد. أرنا الآب وكفانا" (14: 8).
سأل نيقوديمس: "كيف"؟ أجاب يسوع بشكل دقيق وبلهجة إحتفالية مع تكرار: آمين، آمين. الحق الحق أقول لك. كان هناك التباس، فرفع الالتباس. لا يستطيع الانسان أن ينال إمكانية الولادة الثانية إلاّ من الآب وحده. يجب أن نُولد من الماء والروح. فالولادة بالروح تتمّ بواسطة ماء العماد. حين روى الإنجيل خبر يسوع، اهتمّ بأن يبين أن المتطلّبات المفروضة في زمن حضور يسوع التاريخي، ظلّت هي هى في زمن الكنيسة.
وُلد ثانية بالروح. فعلى مدّ التوراة، قدّم الله لشعبه إمكانية الحصول على "قلب جديد" (حز 11: 19؛ رج 36: 26- 27؛ أش 44: 3؛ ار 31: 33). هذا ما استطاع أن يفهمه نيقوديمس، بل مجمل الجماعة اليهودية. ولكن القسم الأكبر من الشعب اليهودي الذي يرمز إليه نيقوديمس هنا، لم يستطيع أن يتقبّل هذه الولادة الجديدة التي يدعوه إليها يسوع.
ويشدّد هذا الجزء الثاني من الحوار على الفاعل وعلى نتائج هذا التحوّل. فالفاعل الوحيد هو الله بواسطة روحه. فكلمة "بنفما" تعني الروح القدس وتعني الريح. وهي تتردّد أربع مرّات في آ 5- 8. هنا يتعارض عالم الله (الذي لا ندرك ينبوعه: "لا تعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب") مع عالم الإنسان. "الجسد" (أو البشرية واللحم والدم) هو الوجود الأرضي والسريع العطب.
نحن لا نرى إلاّ نتائج عمل الريح والروح: كما أننا نسمع صفير الريح، كذلك تُرى أعمال الناس المولودين ثانية من الروح (كنيسة يوحنا). "هكذا كل من يولد من الروح".
قاد يسوع الحوار بسلطته، وأوقفه ساعة شاء مع الذي جاء كمعلّم في إسرائيل. وانتهى القسم الأول من الفصل مع خيبة أمل يسوع: "أنت معلّم في إسرائيل ولا تعرف هذه الأمور" (آ10). وأعيد المعلّم إلى الكتاب والدرس.
وسار نيقوديمس مسافة طويلة مع يسوع. وسيبيّن لنا وَليْ الإنجيل أنه سيظلّ متعاطفاً مع المجموعة المسيحية: ويمكن أن يكون صار مؤمناً فيما بعد، غير أن يوحنا ركّز خبره هنا على فشل نيقوديمس، فما عاد يهتم بمعلومات عابرة. وشرح أغوسطينس هذا النص مشدّداً على الرمزية فقال: "جاء نيقوديمس إلى الرب. ولكنه جاء ليلاً. جاء إلى النور ولكنه جاء في الظلمة. بحث عن النهار في الظلمة... ولكنه تكلّم إنطلاقاً من ظلمة بشريته (ضعفه). لقد صار نيقوديمس هنا صورة ورمزاً: فعبره انتهت المواجهة الليلية والحقيقية بين يسوع والعالم اليهودي في سوء التفاهم. وسوء التفاهم هذا الذي ما زال يفصل المسيحيين عن اليهود، يكمن في هوية يسوع. ففي نظر البعض (نيقوديمس ويهود عصره) يسوع هو نبي أرسله الله. وفي نظر البعض الآخر (المسيحيون) يسوع هو كائن لا يقدر أن يراه إلاّ الذين وُلدوا من الماء والروح".
بعد آ 10، تأخذ الجماعة المشعل من يد يسوع وتتابع عمله في 3: 11- 21: هي صيغة المتكلّم الجمع (نحن نتكلّم بما نعرف) التي تشرف على النص، فتضمّ كلمة يسوع إلى كلمة الجماعة. وحلّ محلّ "نيقوديمس" (الذي هو شخص فرد) مجمل الشعب اليهودي (تكلّم نيقوديمس باسمه) خاصة في آ 11- 13. وبعد آ 13، اختفى الحوار وظلّت حاضرة كلمة الوحي، فتعمّقت تعمّقاً عجيباً: انتقلنا من أمور الدنيا (الأرض) إلى أمور السماء (آ 12).
وهكذا ظهر لنا يسوع كالوحي (حامل الوحي) الوحيد (آ 13). فالمعرفة الوحيدة الحقيقية عن الله، هي تلك التي تأتي من الذي نزل من السماء، من ابن الإنسان. لقد أشار العهد القديم مراراً إلى حلم يصل بالإنسان إلى معرفة الله معرفة مباشرة. قال أم 30: 4: "من صعد إلى السماء ثم نزل منها"؟ وحك 9: 16- 17: "وإذا كنا نحن البشر غير قادرين أن نعرف ما على الأرض، بل حتى ما هو أمام عيوننا، فكيف نقدر أن نعرف ما في السماوات؟ من يعرف أفكارك (يا رب) إذا أنت لم تمنحه الحكمة ومن أعاليك ترسل إليه روحك القدوس".
يسوع هو هذا الموحي الذي لم يقدر أن يتعرّف إليه نيقوديمس، ومن خلاله الشعب اليهودي. قال يوحنا: "ما من أحد رأى الله. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (1: 18). أجل، يعجز الانسان عجزاً جذرياً عن معرفة الله بنفسه معرفة مباشرة، بل هو يتوق إلى هذه المعرفة. قال تث 4: 12: "كلّمكم الرب من وسط النار، فسمعتم صوتاً ولكن لم تروا صورة". فمن يقود الناس إلى معرفة الله؟ الابن الوحيد الذي يشارك الآب في حياته مشاركة لا حدود لها. فيسوع يخبرنا عن الله بحياته وأقواله وأعماله. وقد قال في خطبة الافخارستيا: "من جاء من عند الله هو الذي رأى الآب". بهذه الطريقة يعارض يسوع (وعبره جميع المسيحيين) يهود عصره، حتى القريبين منه مثل نيقوديمس. كما يعارض كل غنوصية (معرفة باطنية) تعتبر أنها تستطيع أن تقدّم معرفة لأسرار الله خارجاً عن يسوع.
من انتظر تقريراً دقيقاً عن حوار تمّ بين يسوع ونيقوديمس، يخطىء الهدف، ويصطدم بصعوبات لا حلّ لها. كما أنه لن يفهم ما يريد الإنجيلي أن يقوله. فشهادة المسيح في هذا الفصل (ولا سيّما بعد آ 14) هي في الوقت عينه شهادة الكنيسة. ومع ذلك، نلاحظ شيئاً يدهشنا. هناك عبارة ترتدي رنّة أرامية: "إن لم يكن الله معه". ثم إن الطريقة التي بها يتوجّه نيقوديمس إلى يسوع تذكّرنا بكلام الفريسيين والهيرودسيين الذين جاؤوا إلى يسوع. مثلاً في مر 12: 14: "يا معلّم، نحن نعرف أنك صادق ولا تبالي بأحد". والجواب الذي قدّمه يسوع حيال تحيّة نيقوديمس له، يتوافق مع ما نجده في عدد من المقاطع الإنجيلية: أو أن يسوع يرفض الجواب. أو هو يدخل في الموضوع منطلقاً من وجهته الخاصة التي تفترق عن وجهة محاوريه (مر 10: 17- 19 وز؛ 7: 27 وز). وهكذا يكون المقطع الذي ندرس قريباً من تقليد الكنيسة حول يسوع.
ورُسمت صورة نيقوديمس بوضوح وهي توافق الظروف التاريخية في زمن يسوع. فهذا الرجل يرتبط بالتيار الفريسي. في ذلك الوقت كان الفريسيون أقلّية في المجلس الأعلى، فما شكّلوا مجموعة منغلقة على ذاتها. وبما أن نيقوديمس كان معلّماً محترماً نقد دُعي ليجلس مع أعضاء المجلس الأعلى. وسنعرف فيما بعد (19: 39) أنه كان غنياً.
نيقوديمس هو "شعب النصر"، والعبرة التي يعطينا إياها هي تواضعه. رغم مركزه الإجتماعي الرفيع وسعة علمه، جاء إلى يسوع. كان باستطاعته أن يدعوه إلى بيته. لم يفعل بل جاء إليه. سأله في إطار "فقر روحي". وهكذا تميّز نيقوديمس عن سائر الفريسيين. سيفهمه يسوع أن عليه أن يعود إلى الطفولة الروحية.
هل سيعود؟ هل سيعود شعبه؟ قد يكون فعل مثل الشاب الغني فتابع يسوع حديثه لا إلى العالم اليهودي، بل إلى الكنيسة التي ستفهم أن ابن الله على الصليب سوف يحيي البشر الذين يؤمنون به.


من مؤلفات الاب بولس الفغالي


No comments:

Post a Comment