قراءة روحيّة
الرابط بين شفاء الأعمى ولقاء يسوع بزكّا هو أنّهما جريا في أريحا. الأوّل فقير يستعطي والثاني غنيّ رئيس للعشّارين. الاثنان يسعيان للوصول إلى يسوع. الاثنان عندهما عائق يمنعهما من ذلك (الأوّل أعمى والثاني قصير القامة). لكنّهما في النهاية سيصلان إلى مبتغاهما. كيف تمّ ذلك بحسب رواية إنجيل لوقا؟ ما هي العبر الروحيّة التي نتغذّى منها؟
شفاء الأعمى
- نراه في البدء جالسًا على جانب الطريق وفي النهاية يتبع يسوع. كيف جرى هذا التحوّل؟
- أعمى يستعطي (شحّاذ)، حُرم النظر فلم ييأس؛ استعمل السمع. تقبّل ما عنده من نقص (إعاقة) ولكنّه استغلّ ما عنده. لم يجلس "يندب حظّه" على فقدان النظر. استغلّ حواسه الأخرى للوصول إلى مبتغاه... لم يطمر الوزنة التي حصل عليها.
- عندما سمع صوت الجمع استخبر: ما عسى أن يكون. فاخبروه أنّ يسوع الناصريّ مارّ من هناك. بمعنى آخر لو لم يستخبر لما أخبروه. عرف كيف يقرأ العلامات المحيطة به وعدم اعتبارها شيئًا طبيعيًّا. فالأشياء الطبيعيّة قد تحمل أشياء غير عاديّة: يسوع الناصري. أساسيّ جدًّا أن ننبهر أمام الأشياء الطبيعيّة العاديّة لعلّها تقودنا إلى الذي هو في أساسها.
- أخبروه أنّ يسوع الناصريّ مارّ من هناك. فأخذ يصيح: "رحماك يا يسوع ابن داود". الجمع يُخبر الأعمى بما رأوه: يسوع بنسبه البشريّ، بأصله الزمنيّ؛ أخبروه بما تراه أعينهم الأرضيّة. أمّا هو فرأى أبعد مما رأوه: "يسوع ابن داود"؛ إنّه يراه بعين الإيمان، يرى نسبَه المسيحانيّ، أصله الإلهيّ. فالأعمى يظهر كمثال المؤمن الذي يرى أبعد مما يراه الآخرون؛ بل أكثر من ذلك، يُعلن ما يراه بعين الإيمان مرّة ومرّتين، ويزداد صياحًا عندما يجد معارضين لهذا الإيمان ولا يهابهم. فلو سكت نزولاً عند طلب الجمع لما حدث أيّ تغيير في حياته.
- "فوقف يسوع وأمر بأن يؤتى به". توقّف يسوع لأنّه سمع شخصًا يناديه مُباشرة باسمه، أي بهويّته الحقيقيّة. إنّها حقيقة إيمانيّة تتمحور حولها تصرّفات المؤمن وصلاته وكلّ حياته: يسوع يتوقّف عند طلبتنا، يتوقّف ليستمع إلينا، يتوقّف ليدعونا لنقوم أمامه.
- أمام صرخة الأعمى: "يا ابن داود ارحمني"، يسوع يسأله: "ماذا تريد أن أصنع لك؟" يدخل يسوع في حوار مع الأعمى. يسوع ينزل عند رغبته ولا يتجاوز إرادة الإنسان (رغبة الإنسان ضروريّة لكّنها غير ملزمة بحسب خير الإنسان الذي يعرفه يسوع). فيسوع لا يعمل الأشياء التي ليست لخيرنا؛ ولا يستطيع أن يعمل أشياء لا تتناسب مع طبيعته (مساعدتنا على السرقة مثلاً).
- يسوع يسأل الأعمى ضمن "وظيفته". إنّه شحّاذ متسوّل؛ يسوع يسأله بكلّ بساطة: ماذا تريد؟ بمعنى آخر، يسوع يطال الإنسان حيثما كان، يطاله في حياته العاديّة وضمن منطقه، ولكن لا ليبقيه في مكانه بل ليدفعه إلى الأمام.
- "يا ربّ أن أبصر". طلبُ الأعمى يبدأ بإعلان هويّة يسوع الأساسيّة: يا ربّ. وعلى هذا الأساس (ألوهيّة يسوع) يسأله ما يستطيع أن يعمله: أن أبصر.
- "أبصر إيمانك خلّصك". ما هو إيمان الأعمى؟ لا يقتصر إيمان الأعمى على الإعلان: ابن داود، يا ربّ، بل يشمل كلّ المسيرة التي قام بها.
- أبصر الأعمى، لكنّ القصّة لم تنتهِ. نتيجة إيمانه لم تكن عودة الرؤية إليه فقط. هناك نتيجة مزدوجة: شخصيّة وجماعيّة. على الصعيد الشخصيّ، رأى، تبع يسوع، مجّد الله؛ على الصعيد الجماعيّ، الشعب بأجمعه رأى، سبّحوا الله. فالذين كان لهم دور سلبيّ مع الأعمى، كان للأعمى دور إيجابيّ معهم.
- خاتمة: توقّفنا على كلّ الكلمات التي وردت في رواية شفاء الأعمى، وأخذت كلّها معناها الروحيّ. ولكن تبقى كلمة واحدة وردت مرّتين في النصّ لم نتطرّق إليها، وهي في أساس علاقة الأعمى بيسوع: إنّها الرحمة. "رحماك"، ارحمني". إنّها المحور الذي تدور حوله أحداث النصّ كلّها: رحمة يسوع التي تُظهر رحمة الله؛ لذلك نرى في نهاية الرواية: اتّباع يسوع وتمجيد الله.
اللقاء مع زكّا
- بعد اقترابه من أريحا، يسوع يدخل أريحا. زكّا رئيس العشّارين له هدف واضح: "يُحاول أن يرى من هو يسوع". ويبدأ سعيه للوصول إلى غايته.
- يصطدم زكّا بعائق مزدوج: كثرة الزحام وقصر القامة. وكما هي الحال مع الأعمى، لم يتوقّف زكّا عند أوّل صعوبة. فالذي يسعى للوصول إلى يسوع يعمل المستحيل (حاملو المخلّع، مثلاً، ثقبوا السقف؛ زكّا صعد جميّزة؛ النازفة اخترقت الجموع...)
- قام زكّا بمجهود شخصيّ. صعد ليرى يسوع، وإذا بيسوع يرفع نظره ويرى زكّا. يسوع يطال الإنسان حيث هو: على قارعة الطريق أو على جميّزة، فقيرًا كان أم غنيًّا، شحّاذًا أو رئيس عشّارين...
- لم يتخطّ يسوع مجهود زكّا بل تمّمه: كمّله وأعطاه معناه وأوصله إلى الغاية المنشودة الحسنة. لذلك دعاه للنزول على عجل لأنّ يسوع سيُظهر نفسه لزكّا من خلال دخوله بيته.
- هدف زكّا ليس رؤية يسوع بعين الجسد (طوله، لون شعره، ماذا يرتدي...) وإلاّ لكان قد وصل إلى غايته عند صعوده إلى الجمّيزة وانتهت الرواية. ولكّننا نراه ينزل سريعًا عندما دعاه يسوع لأنّ زكّا يفتّش عن شيء أعمق.
- ينزل زكّا ويستقبل يسوع فرحًا مسرورًا لأنّ هدفه بدأ يتحقّق. رأى يسوع بعينيه وسيراه بقلبه.
- الجمع الذي كان يشكّل حاجزًا بين زكّا ويسوع سيستاء ويتذمّر: "دخل بيت رجل خاطئ ليبيت عنده". هذا صحيح! لكنّ يسوع دخل بيت الخاطئ لا ليُبقيه خاطئًا بل ليحوّله إلى تائب مكفّر عن خطيئته.
- خطيئة زكّا رئيس العشّارين معروفة؛ أمّا خطيئة الشعب فهي أنّه عندما يكوّن فكرة عن إنسان معيّن يرفض أن يغيّرها وكأنه يحكم على ذلك الإنسان بأنّه لن يتغيّر ويحكم على قدرة الله التي باستطاعتها أن تجعل الإنسان يتجدّد وأن تخلقه إنسانًا جديدًا.
- لم يقل يسوع لزكّا أيّ شيء عن خطيئته. لكنّ زكّا، بمجرّد وجوده أمام يسوع يرى خطيئته ويعرف أنّها العائق الوحيد الذي يمنعه عن رؤية َمن هو يسوع. لذلك كان على زكّا أن يُكفّر عن خطيئته أوّلاً ويتوب عنها. توبة زكّا توبة عمليّة.
- كيف كانت توبة زكّا؟ قبل أن يتحدّث عن ماضيه، يتكلّم زكّا عن الحاضر والمستقبل: ها إنّي أعطي الفقراء نصف أموالي، وإذا ظلمت أحدًا أردّه عليه أربعة أضعاف. فالندامة الحقيقيّة تبدأ بالحديث عن المقاصد المستقبليّة ثم تنتقل للندامة عن الماضي وللتكفير عنه.
- بعد ذلك يُعلن يسوع أنّ الخلاص قد حصل لهذا البيت. فما هو الخلاص؟ مع الأعمى، "إيمانك خلّصك": فالأعمى موجود في حضرة يسوع ويطلب رؤيته بعد أن أعلن إيمانه وأزال الحواجز الخارجيّة والداخليّة. مع زكّا، "اليوم،حصل الخلاص لهذا البيت": زكّا في حضرة يسوع وقد أزال كلّ الحواجز الداخليّة والخارجيّة. فلماذا لا يحصل الخلاص لزكّا الذي آمن (إذ هو ابن إبراهيم أبي المؤمنين)؟
- زكّا يسعى ليرى من هو يسوع، فإذا بيسوع يرى زكّا. زكّا يبحث عن يسوع، فإذا بيسوع ابن الإنسان يبحث عن زكّا الهالك ليمنحه الخلاص. زكّا يبحث ليرى مَن هو يسوع، وإذا بيسوع يكشف عن نفسه لزكّا. من هو يسوع؟ هو ابن الإنسان الذي جاء ليبحث عن الهالك ويُخلّصه؛ إنّه الخلاص.
- خاتمة: هناك كلمة تتكرّر مرّتين في نصّ زكّا وهي كلمة "اليوم" (يجب عليّ أن أقيم اليوم في بيتك؛ اليوم حصل الخلاص لهذا البيت). والاثنتان تردان على لسان يسوع. خلاص الله لا يتأخّر؛ إنّه معطى "اليوم" لكلّ من يطلبه. على الصليب مثلاً، عندما طلب اللص من يسوع أن يذكره في ملكوته، أجابه يسوع: "اليوم تكون معي في الفردوس". في مجمع الناصرة يُعلن يسوع: "اليوم تمّت هذه الكتابة". كلام الله وخلاصه بيسوع موجّهان لنا دائمًا في صيغة الحاضر: "اليوم".
- ملاحظة: ما هو الرابط بين الروايتين وبين مدينة أريحا؟ أريحا هي أوّل مدينة دخلها العائدون من مصر والداخلون إلى أرض الميعاد. أريحا مدينة مدمّرة ولا خلاص لها (يشوع 1-6 خاصّة 6: 26). مع يسوع ستحصل على الخلاص (اسم زكّا يعني "المنتصر"). المدينة المدمّرة سيُعطيها الربّ الحياة بعد أن فقدت كلّ أمل ورجاء بالحياة.
خلاصة وأفكار للتأمّل
- الفقير والغنّي على السواء هما بحاجة إلى يسوع. يسوع يُلبّى الحاجة النفسيّة والجسديّة.
- في السعي نحو يسوع يكفي على الإنسان أن يخطو خطوة نحو يسوع حتى يجد يسوع يتمّمها له ويقوده خطوة بعد الأخرى في السير وراءه. إرادة الإنسان أساسيّة. (الله الذي خلقك بدونك لا يستطيع أن يُخلّصك بدون إرادتك).
- لكي ترى يسوع بقلبك عليك مثل زكّا أن تمرّ بتنقية ذاتك تنقية عمليّة.
- أنا أبحث عن يسوع، أنتظره؛ ولكن هو الذي يكشف لي عن نفسه وعن هويتّه: هو الخلاص، هو الذي يبحث عنّى ويُخلّصني.
- مع يسوع لا شيء يبقى مدمّرًا، لا شيء يبقى دون أمل ورجاء. حتّى المدينة التي وقفت في وجه شعب الله ستنال الخلاص لأنّها بحثت عن يسوع وتابت توبة حقيقيّة وسألته الرحمة.
- يسوع يزرع الرجاء والخلاص حيث نعتبر أنّ كلّ أمل بالحياة قد فُقد.
الأب أنطوان عوكر